أربعينية الفقيد أحمد الحبيب الجلولي
تخليدا لذكرى أحد رجالات تونس و أعيانها
"الصباح", الجمعة 13 ماي 2011, ص 8
طلعة بهية و حسن
السمت و رقة في الذوق و أناقة في الملبس, كان يرتدي الزي التقليدي من البرنس و
الجبة الموشحة بخيوط الحرير كأحسن ما ترى و يتوج رأسه بشاشية قرمزية عالية القامة
تضفي عليه حسنا و بهاء, تلك صفات حبا الله بها فقيدنا الراحل, و ذلك مظهره الرائع
الذي كان يظهر به بين الناس. أما من خالطه عن قرب فسيستشف فيه سلامة في الطوية و
سماحة في الأخلاق و رجاحة في العقل و علوا في الهمة, مما جعل الناس, خاصتهم و
عامتهم, يضمرون له الود و يأثرونه بالمنزلة العالية و الحظوة السامية, كذلك كان في
ذاته و نعوته و كذلك كانت مكانته عند كل من عرفه من قريب أو بعيد.
لقد فارقنا سيدي
أحمد الجلولي منذ بضعة أسابيع ملبيا داعي ربه, و لقد كان حقا طوال حياته, لا سيما في
الظرف الذي كادت فيه القيم أن تتداعى و عرى الثوابت أن تنحل, بمثابة القدوة لكل من
تاقت نفسه إلى تهذيب في السلوك و اتباع لما تمليه قواعد العرف المقرر المرضي, لقد
ساهم في إعطاء صورة مشرقة عن الشخصية التونسية المتكاملة, فكان رمزا للأصالة و للتربية
العالية بأتم معناها, يتحلى بجمال الشكل و حسن المظهر و تصرف لائق مع الناس و
ملازمة لقواعد السلوك المهذب و آداب الكلام, كل ذلك كان فيه سجية لا استعمال فيه و
لا تصنع, بل كان متلائما مع طبيعته ممتزجا مع سمو ذوقه و رفاهة حسه, متناسقا مع
حياته و بيئته. فكل من شاهده على تلك الصافات لا يلبث أن يغمره شعور قوي بالاعتزاز
بهذا الوطن الذي أنجب هذا المثل العالي من الرجال و بشرف الانتماء إلى هذه الحضارة
التي شعت بأبهى معاني العبقرية بما أرست من عادات أثيلة و قيم نبيلة.
أجل, لقد كانت
شخصيته الفذة نابعة من جذور الماضي متمسكة بعراقتها متغذية بثقافتها, فكان لديه من
الحيوية و الاعتناء بالموروث الحضاري و شديد الحرص على صيانة و إنقاذ ما يوشك أن
ينجرف منه مع تيار التطور الساحق, كان يعتبر و أن آفة المستقبل الانصهار في بوتقة
العولمة و ذوبان الذات, و أن ما يضمن تدعيم الهوية و تأصيل المكاسب الثقافية هو
الحفاظ على التراث القيم و محاولة إبقائه على خصوصياته و ما يتمتع به من مميزات و
تفرد, و بذلك يكون مظهرا صادقا للشعور القومي و تمكينا للوحدة القومية في الأجيال
المتعاقبة.
بيد أن شخصه
المتميز الذي كان ينفرد بطابع عربي أصيل قد تشبع في الوقت نفسه بالعلوم و المعارف
الغربية و استقى من فنونها و آدابها, و لا ننسى أنه قد زاول تعليمه الابتدائي
بمدرسة قرطاج و الثانوي بمعهد كارنو فكان يجيد اللغة الفرنسية إجادة كاملة, مما
جعله متزامنا مع العصر بما يفرضه من حداثة و انفتاح.
لقد أسعدني الحظ أن عرفته مليا, لما كانت تربطني
به من أواصر المصاهرة و الصداقة, لا سيما و أني غالبا ما كنت ألتقي به عند زياراتي
المتكررة إلى دار ابن عاشور, فكنت أشاطره الود و أقاسمه المحبة الخالصة لهذه
العائلة الكريمة التي ما فتئت تجمعنا برواقها العلوي و ببستانها الزاهر بضاحية
المرسى فتغمرنا بفيض رعايتها و سعة كرمها. كنت من بين الملتفين حوله بآذان مصغية
إلى عذب كلامه, و كان خفيف النفس ذا دعابة و طرافة, و لا يسعني المجال في هذه
العجالة أن أتحف القارئ بنبذ من الملح و النوادر التي حكاها و التي بقيت عالقة في
ذهني.
آخر صورة للسيد أحمد الجلولي وهو جالس بالمكتبة العتيقة الكائنة بنهج جامع الزيتونة و التي كانت منتدى العلماء و الأدباء, التقطها زميلنا صلاح الدين ابن عبيد قبل وفاة السيد أحمد الجلولي ببضعة أسابيع.
لقد أضحى زينة المجالس و بهجة المحافل يلقى من
قبل مضيفيه غاية الرعاية و التبجيل, كان لا يتخلف عن المنتديات و المحاضرات, و
يتردد صبيحة أيام الخميس بصفة منتظمة إلى "المكتبة العتيقة" لصاحبها الشيخ
علي العسلي أمين سوق الكتبية حيث يتلاقى مع نخبة من أهل الفكر يستأنسون بحديثه, و
كان إذا اجتمع مع الملإ من الناس سرعان ما يأخذ بألبابهم و يشنف آذانهم فيسوق لهم
ببالغ الدقة و منتهى التفصيل الأحداث و الوقائع لا يخطئ في ضبط تاريخها و لا
يتلعثم في ذكر أسماء الأفراد أو الأمكنة الواردة في كلامه, و كان يستحضر فقرات
برمتها من محض ذاكرته مما يدل على سعة اطلاعه على الكتب و المجلات العربية منها و
الفرنسية التي كان حريصا على جمعها و المتعلقة بالتاريخ التونسي عامة و بالدولة
الحسينية خاصة, ناهيك أنه كان يحفظ عن ظهر قلب جانبا من كتاب
"الاتحاف" لابن أبي الضياف, و هذه المعرفة الجيدة بالأخبار السالفة و الأيام
الماضية نجده قد تلقاها منذ نعومة أضفاره عن الوسط الذي تكون فيه و تطبع بآدابه,
قال ابن أبي الضياف عن جده الأعلى محمود بن بكار الجلولي (المتوفى سنة 1893) : "و له
معرفة تامة بالتاريخ", فكان حفيده كذلك كان المؤرخ اللبق, حديثه كما أشرنا
متعة للسامع, بعيد عن العرض الجاف, تتخلله النكت الرقيقة و تنعشه الذكريات التي
عاشها بنفسه أو حضرها مع مشاهير معاصريه, فينقل محاوراتهم و يبين مواقفهم و يرسم
عنهم صورا حية ناطقة يصفهم كأنك تراهم رؤية العين.
لقد كانت له على الخصوص
خبرة و دراية بالتقاليد ومواسم الأعياد و المناسبات عند أهل الحاضرة, فكان مرجعا
لا غنى عنه يأوي إليه كل من أراد البحث في ما يتعلق بالمدينة العتيقة من دقائق
العادات و التراتيب الجارية في الأفراح و الأتراح
و نسق العيش و حذق المهن و الصنائع و فن العمران و إشادة المعالم... و
بالمناسبة فقد حثني على الاطلاع على كتاب حين صدوره سنة 1994 عن دار النشر ساراس,
للأديب و الرحالة محمد بن عثمان الحشائشي (مؤلف "تاريخ جامع الزيتونة"),
و عنوان الكتاب "الهداية أو الفوائد العلمية في العادات التونسية", قال لي
ستجد فيه من المعلومات الوافية عن حياة المجتمع وعوائده, و من التفاصيل التي
أهملها المؤرخون ولم يعنوا بها و اكتفوا بذكر أحوال الملوك و الدول, في حين أنها
في حد ذاتها, رغم ما يبدو من تفاهتها, يمكن أحيانا أن تسعف المؤرخ و أن تكون له
مستندا لإجلاء الالتباس عن بعض الجوانب لأحداث تاريخية هامة.
كانت لا تفوته أية
شاردة و لا واردة فيما يتعلق بالكتب و المخطوطات المتفرقة في شتى المكتبات العامة أو
الخاصة. و قد حدثني عن بعض المؤلفات التي استأثرت بها مكتبتنا العائلية, و ذكر لي
على الخصوص مخطوطة قديمة تشتمل على كتابين اثنين, عنوان الأول "جر الذيل في
علم الخيل" و عنوان الثاني "كتاب الخيل و السراج و اللجام"
لمؤلفهما أبي عبيدة النحوي معمر بن المثنى التيمي بالولاء (المتوفى سنة 209 \824),
و أكد لي أن هذه النسخة فريدة من نوعها و لعلها لا يوجد لها نظير, و لما أعلمت
بذلك والدي طيب الله ثراه أخرج لي هذه المخطوطة العجيبة من ناحية التزويق و رونق
الخط و ما تحويه من رسوم تخطيطية لأنواع السرج و الرّحالة و العذار و اللجام ولوازم
ركوب الخيل, و أعلمني أن هناك نسخة خطية أخرى موجودة بالهند, وأن الباحث و المحقق
المرحوم محمد التركي (مدير التشريفات بالقصر الملكي سابقا) و الذي كان صديقا
للعائلة, قد استعار المخطوطة وأتاح للمكتبة الوطنية بباريس استنساخها
فتوغرافيا, و تبين بعد ذلك أن المخطوطة الهندية قد تم طبعها لأول مرة سنة
1358\1932. و لا شك في أن اهتمام السيد أحمد الجلولي بهذه النسخة بالذات ناتج بصفة
خاصة عن الهواية التي اشتهر بها, على غرار ما كان عليه والده من حب الفروسية و
ركوب الخيل العتاق, و هي هواية قد تعاطاها و برع فيها منذ شبابه, فكان ديدنه أن يجمع
بين الاقبال على مطالعة الكتب و رياضة الفروسية و هما خير ما يشغل به الوقت كما
عنى به المتنبي في قوله :
أعز مكان في الدنا سرج سابح و خبر جليس في الأنام كتاب
و في محبة الخيل العتاق و التعلق بها يقول ابن عباس رضي الله عنه :
أحبوا الخيل و اصبروا عليها فإن العز فيها و الجمالا
إذا ما الخيل ضيعها أناس ربطناها فشاركت العيالا
نقاسمها المعيشة كل يوم و نكسوها البراقع والجلالا
كان معروفا بكرم
الوفادة و أدب الضيافة, يرحب بمن يزوره في قصره الفسيح الكائن بنهج الغني بحي باب
المنارة بالعاصمة, و الذي ظل منذ عهد قديم مقر آبائه و أجداده, قال عنهم صاحب
الاتحاف : "من البيوت المشهورة و آثارهم مأثورة و رسوخ قدمهم في الخدمة من
لدن بني حفص", و قال عنهم العلامة الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور في
"تراجم الأعلام" (وهو ابن خال مترجمنا) : "بيت من
أعرق البيوت التونسية في المجد المخزني و أرسخها قدما في الرئاسة (...) تسلسلت فيه
الولايات الكبيرة و المناصب الخطيرة من عهد الدولة الحفصية". و قد نشأ صاحب
الترجمة بين يدي والده السيد الحبيب بن علي بن فرحات الجلولي الذي أولاه الرعاية و العناية و التربية
الصالحة, فكان له في والده صبابة و اعتزاز, و قد تولى هذا الأخير منصب وزير قلم ثم
وزير عدل في مدة محمد الأمين باي, و أم مترجمنا هي سارة شقيقة الامام المنعم الشيخ
محمد الطاهر ابن عاشور صاحب "التحرير و التنوير".
و من عادته أنه
كان يمد كل من يتوجه إليه من الدارسين و المؤلفين بما يهمهم من الوثائق الفريدة و
الكتب النادرة التي احتوت عليها مكتبته الغنية بالنفائس. و قد جمع من الوثائق و
الأرشيف كما هائلا و جعله على ذمة الباحثين فيستنسخ لهم الوثيقة التي يحتاجونها و
لا يتقاضى على ذلك أي مقابل, و قد سبق أن
كنت توسلت لديه لبعض الطلبة النابهين ممن أشرفت على أطروحاتهم الجامعية في
اختصاص الفنون و الحرف, و التمست منه مساعدتهم فلبى الطلب و أمدهم بما لا يستغنون
عنه من المراجع, هكذا كان دأبه يكرم طلاب العلم غاية الاكرام, حتى أنه لا يكاد
يصدر كتاب أو تأليف يكون له مساس بتونس و بتراثها العلمي أو المعماري أو الفني بصفة
عامة إلا و يدبج اسم أحمد الجلولي في قائمة الاهداء أو الشكر و الثناء, و إكرامه
لأهل العلم كما قلنا كان تأسيا بآبائه فهي عادة عندهم مألوفة, قال ابن أبي الضياف
عن جده محمود الذي ذكرناه آنفا : "و له كتب بداره في الحاضرة لا يمنع من يريد الانتفاع بها" و
يضيف المؤرخ قائلا : "و هي التي انتفعت بها في قراءتي أجزل الله ثوابه".
مناسبة افتتاح مشربة الحديقة 2 : السيد أحمد الجلولي و بجانبه السيد عبد العزيز الاصرم رئيس النادي الافريقي
لقد أمست دار
الجلولي في حياة سيدي أحمد في أبهى حلة, كانت مقصد الزائرين من أهل الفكر و
السياسة و السفراء و الدبلوماسيين, و كان يطلع زواره على ما لديه من التراث
العائلي القيم, و جعل من قصره متحفا مزدانا بالأثاث العتيق , غنيا بالطرف الثمينة
و القطع الأثرية و المخطوطات المعتبرة, مما يقدم مشهدا حيا عما كان عليه منذ زمان
نمط العيش في قصور المدينة, و من المأمول أن يبقى هذا القصر البهيج على حالته تلك
و أن يحافظ على كل ما يحتويه من الأمتعة و التحف و أن لا تحول من أمكنتها حتى تبقى
على الدوام أثرا ملموسا و شاهدا على
صاحبها, و لقد أحسن القائل :
آثاره تنبيك عن
أخباره حتى كأنك بالعيان تراه.
بقلم
خالد الأصرم, سكرة, الخميس 14 أبريل 2011